# رواية البديلة #الفصل الأول
#رواية البديلة
الفصل الأول
"أمي لا أريد أن أفطر، سآكل مع زملائي في الصف"
قالها إياد بتوسل لمرام التي اقتربت منه وقبلته على وجنته بحنان قائلة: إنها قطعة صغيرة من الكيك حبيبي، هيا أكملها حتى أوقظ والدك، توجهت إلى حجرتها لتوقظ كريم للمرة السادسة لهذا الصباح، اقتربت منه تهزه برفق هامسة: هيا كريم حتى لا نتأخر.
أجابها بنعاس دون أن يفتح عينيه: خمس دقائق وأيقظيني مرام.
تنهدت وهي تواصل إيقاظه بصبر: هيا كريم هذه سادس مرة تقول لي فيها أيقظيني بعد خمس دقائق، هيا حبيبي حتى لا نتأخر.
فتح عينيه بتثاقل والنعاس لم يغادره بعد، فمالت تقبل وجنته هامسة: صباح الخير هيا لقد أصبحت الثامنة تجهز سريعًا وأنا سأعد لك القهوة.
ابتسمت وهي تراه يقوم بوجه عابس لم يفارقه النعاس بعد ويتجه للحمام لينعش نفسه ليستفيق أما هي فتوجهت إلى مطبخها لتعد لهما قهوة الصباح.
دخل بنفس الوجه العابس إلى المطبخ وهو لم يستفق بشكل كامل، ابتسمت له ووضعت فنجان القهوة أمامه وقطعة صغيرة من الكيك، أزاح طبق الكيك بتذمر قائلًا: لا أريد سأشرب القهوة فقط.
قفز إياد ابنها مُزيحًا الطبق هو الآخر وهو يردد مقلدًا والده: وأنا أيضًا لا أريد مثل أبي سأشرب اللبن فقط.
رمقت مرام كريم بتحذير وهي تخاطب ابنها بحزم: سنأكل كلنا يا إياد أليس كذلك يا كريم؟
تذمر كريم بحنق وهو يقول بخفوت: لا أعلم من يربي من هل نحن من يربيه أم هو من يربينا!
ضحكت دون أن تعلق مقربة منه الطبق ليأكل، سألها إياد بشقاوة: أمي لماذا لا يتكلم أبي ولا يبتسم.
ضحكت مرام على تعبيرات كريم وهو ينظر لابنه بغيظ ثم التفتت لولدها تجيبه: لأن كل انسان له طبع يا حبيبي بعض الناس عندما يستيقظون يأخذون وقتًا حتى يفيقون ويتحدثون مثل بابا، ثم أردفت بحنان: هيا أكمل حتى لا نتأخر.
فور أن أنهوا فطورهم تحركوا معًا إلى سيارة كريم ليقل ابنه أولًا إلى روضته ثم يتجه بعدها إلى مكتبهم الهندسي الذي أسساه هو ومرام مع صديقهما عمار.
فور أن رآهما عمار الذي كان قد سبقهما إلى المكتب حتى ألقى عليهما تحية الصباح: صباح الخير، ثم سأل مرام بسخرية: ألم يستفق زوجك بعد.
نظر له كريم بغيظ قبل أن يدلف إلى مكتبهما المشترك، ضحكت مرام وهي ترد على عمار: إنها التاسعة، باقي نصف ساعة ويستفق بشكل كامل لا تقلق.
فزوجها من الأشخاص الّذين يأخذون وقتًا طويلًا في الصباح حتى يستفيقوا بشكل كامل ويعود إليهم كامل تركيزهم.
سألها باهتمام: كيف حال أخت لينا؟
ظهر الحزن على وجهها وهي ترد عليه: لا يوجد جديد مازالت في غيبوبتها، لينا متأثرة بشدة.
انقبض قلبه وهو يغمغم بخفوت: الأشقاء لا يعوضون أبدًا يا مرام، سأذهب لأكلم شقيقتاي وأطمئن عليهما حتى يستفيق كريم ونتحدث.
راقبت انصرافه ثم نظرت إلى كريم فوجدته يرد على هاتفه وقد بدأ يستفيق قليلًا، لا بد من أنها والدته فهي تتصل به كل يوم في نفس الموعد لتطمئن عليه، تحركت إلي غرفتها لتضع حقيبتها ثم أخرجت هاتفها وتأملته بحزن، فتحت سجل المكالمات وتأملته بمرارة، لا يوجد أيّ مكالمات واردة لديها إلا من كريم، ليت لها أحد يتصل بها ليسألها عن أحوالها، ليت لها شخصًا يفتقدها إذا غابت ويطمئن على أحوالها، زفرت بمرارة وهي تنفض رأسها حتي تغيب عنها هذه الأفكار السلبية، فتحت الحاسوب لتكمل تصميمها الذي تعمل عليه، لتغرق كعادتها بعملها عما سواه.
************
-صباح الخير عمار كيف حالك؟ لا حرمني الله من اتصالك الصباحي لا يكمل يومي من دونه.
ابتسم وهو يسألها: كيف حالك حبيبتي؟ وكيف حال مدحت والأولاد.
سمع صوتها يجيبه: بخير حال يا عمار لقد ذهبوا إلى مدراسهم ومدحت إلى عمله، كيف حالك أنت وأمي لقد اشتقت إليكم كثيرًا، بعد قليل سأذهب إليها لأقضي معها بعض الوقت قبل عودة الأولاد من المدرسة.
-نحن بخير حال حبيبتي، للأسف أنا في العمل لن أستطيع رؤيتك، إن شاء لله أراك الجمعة القادمة، هل تريدين شيئًا حبيبتي؟
ما إن سمع إجابتها بالنفي حتى أغلق الاتصال بعد وداعها ثم اتصل بشقيقته الأخرى ليطمئن عليها، لا يبدأ عمله قبل اتصاله اليومي بهما ليطمئن عليهما، عادة لا يشعر باكتمال يومه من غيرها، ما إن أنهى اتصاله بشقيقته حتى أخرج رقمها ليتصل بها ولكن على عكس حماسه وقت الاتصال بشقيقته بدا التردد ككل يوم يغزوه فردود أفعالها تحبطه كل يوم وكأنها تنزعج من اتصاله، غلب تردده وضغط على زر الاتصال ولكن بعد الرنة الثالثة فوجئ بها تغلق الخط مثل أمس، أغلق عينيه وهو يحدث نفسه ليهدئها" لا بد إنها مشغولة بعملها عمار، لا تغضب" ولكن قلقه وعادته في الاعتناء بمن حوله غلبته فأرسل إليها رسالة نصية " صباح الخير كنت أطمئن فقط أنك وصلت للعمل بالسلامة"، أنقذه دخول مرام من أفكاره فنظر إلى ساعته ليجدها التاسعة والنصف تمامًا موعد استفاقة كريم، ابتسم بمرح متكلف يسألها: كيف تتحملين مزاجه العكر هذا في الصباح؟
ابتسمت في وجهه وهي تضع القهوة أمام كريم أولًا ثم تناوله قهوته وتجلس أمامهما: لا تقل هذا عليه عمار إنه يأخذ وقتًا ليستفيق ليس أكثر.
استرخي كريم في مقعده وهو ينظر لعمار: لماذا تتدخل أنت؟ ما شأنك لا أفهم؟
سألت مرام كريم باهتمام: كيف حالك الآن هل استفقت؟
-أشعر بصداع شديد فقط.
وبخته قائلة: لأنك تسهر كثيرًا ليلًا لماذا لا تسمع الكلام وتنام مبكرًا؟
-أحب السهر وأنت تعلمين، ثم أردف بحنق: وأوجدي لكِ حلًا في موضوع الإفطار هذا، أنا لا أحب الإفطار فور استيقاظي من النوم، واياد لا يتركني بحالي.
ابتسمت محاولة التغلب على ضحكة تجاهد للظهور وهي تغمغم بخفوت: حاضر سأجد حلًا.
تبرم بضيق: كل يوم تقولين نفس الكلام ولا شيء يتغير.
تدخل عمار في الحوار: يا إلهي كف عن دلالك يا رجل ثم أكمل وهو ينظر إلى مرام: كيف تتحملين دلاله السخيف هذا.
- وما شأنك أنت؟ تزوج وارحمنا من فراغك هذا، ولكنك بالطبع لن تجد مثل مرام فلا يوجد منها نسخة مماثلة في هذا العالم.
ابتسمت وهي تنظر إليهم مستمتعة بمشاكستهم اليومية، عمار زميلهم منذ أيام الجامعة وشريكهم في المكتب وصديق كريم المقرب، صديق حقيقي ورجل قل وجوده في هذا الزمان دائمًا تخبره أن مثيله قد انقرض من هذه الحياة.
تنحنحت تقطع مشاكستهم وهي تقول بحزم: هيا بنا لنبدأ اجتماعنا لنحدد النقاط الرئيسية التي سنتحدث فيها مع العميل.
التفت عمار إلى كريم قائلًا: تعرف لولا مرام لأغلق هذا المكتب منذ زمن، ثم التفت إليها مردفًا: لقد أنقذت هذا المكتب يا مرام بقبولك مشاركتنا، ماذا كنا سنفعل لولا وجودك.
ابتسمت بخجل ترد عليه: لا تقل هذا أنت وكريم مميزان في عملكما.
ابتسم كريم في وجهها بحنان وهو يقوم من مكانه قائلًا: معه حق أنت عبقرية مكتبنا ومديرته الحازمة.
ابتسمت سعيدة بثنائهم متوجهة معهم إلى قاعة الاجتماعات بمكتبهم ليناقشوا الخطوط الرئيسية لعرضهم قبل لقائهم مع العميل.
****************
جالسة تتابع صفحته باهتمام شديد، كانت تتنقل بين صوره المختلفة ثم غمغمت بحيرة: يكتب إنه متزوج ولكن لا أجد صورة لزوجته، هل عنده أولاد يا ترى؟
واصلت بحثها باهتمام حتى تألقت عيناها وهي تجد ما تبحث عنه أخيرًا، صورة يتيمة له مع زوجته وابنه.
تأملت صورة زوجته بامتعاض وهي تغمغم: ما هذا الذوق يا كريم؟ إنها تشبه عجوز في السبعين من عمرها بهيئتها وملابسها، ولكن ابنك وسيم يشبهك كثيرًا.
لم تنتبه في غمرة انشغالها بدخول أختها التي وقفت خلفها تتابع ما تفعله بعين غير راضية، فزعت من صوت أختها الذي انتشلها من استغراقها: ماذا تفعلين سلمى أليس هذا الشاب الذي كنت مرتبطة به أيام الجامعة؟ هل هو سبب انفصالك عن زوجك؟ هل وعدك بشيء؟ هل هو من خرب حياتك ودفعك للطلاق.
تأففت من كلام شقيقتها: هل هو تحقيق يا رجاء؟
اقتربت منها شقيقتها بقلق تتأمل الصورة التي أمامها: أنا أخاف عليك حبيبتي، بعض الرجال ليس عندهم ضمير، كيف استمعت إليه وأفسدت حياتك، واضح أن لديه أولاد وزوجة، لن يهدم بيته من أجلك.
-أنا لم أتواصل مع كريم منذ خطبت لكارم لا تقلقي، لم يكن هو سبب طلاقي بل برود كارم وملله هو ما دفعني للطلاق.
اقتربت منها شقيقتها قائلة: كارم يحبك يا سلمى، إنه يلح على أبي حتى يقنعك بالعودة إليه، لا تضيعي رجلًا كهذا من يدك، إنه يحبك ويهتم بك ويدللك كطفلة، ويصبر على جنونك الذي لا ينتهي.
مطت شفتيها بضيق تقول: لقد سئمت منه ولن أعود إليه أخبرتكم أنه رجل ممل تقليدي لا أشعر معه بحرارة الحب الذي كنت أشعره مع كريم، كريم شخص مختلف حيوي مرح غير تقليدي بعكس الممل الآخر، سأعود إليه فيبدو إنه متزوج من شخصية مملة هو الآخر، ثم قربت شاشة الحاسوب من شقيقتها تشير إلى صورته مع أسرته مردفه بقرف: أنظري إلى ملابسها ووجهها لا أعرف كيف تزوجها كريم كان دائمًا ذوقه راقي، لا أعرف كيف يطيق النظر في وجهها.
نظرت رجاء إلى سلمى بغيظ وهي تصرخ بوجهها: هل ما أفهمه صحيح؟ هل جننت؟ حسبت أن الرجل هو من أغواك لتتطلقي، هل تريدين خراب حياة الرجل وبيته، أنظري إلى الصورة إنها أسرة جميلة يبدو عليها السعادة بينهما طفل، أشارت بيدها إلى الصورة مردفة: أنظري الى ملامحه إنه سعيد ويبدو عليه الراحة دعيه في شأنه والتفتِ أنت لحالك وكف عن أنانيتك سلمى حتى لا تندمي.
- أنا لا أندم رجاء، كريم حقي أنا وهي من سرقته مني فقط سآخذ ما هو لي أنا لا أترك ما هو ملكي لأحد و أنت تعرفين.
تطلعت إليها شقيقتها بذهول لا تستطيع فهم طريقة تفكيرها، ضربت كفيها معًا وهي تسألها: لا أفهمك حقًا لا أفهمك، كيف سرقته منك؟ أنت تزوجت وانتهت قصتكما معًا، لم تكن طرفاً بينكما بالأساس.
استرخت في فراشها بملل من لوم أختها المتواصل: لأنه يحبني أنا، ملكي أنا وما هو ملكي لا يجب أن ينظر إليه أحد، أما هو فسيكون حسابي معه عسيرًا، كيف يتزوج من بعدي!، كيف يسير بحياته رغم بعدي.!
تهكمت أختها: وما المطلوب منه! أنت تزوجت وسافرت وبدأت حياتك هل مطلوب منه أن يعيش على ذكراك!
رفعت رأسها بغرور تقول لأختها: بالطبع وهل أنا شخصية يسهل نسيانها حتى يتزوج بعد انفصالنا، ولكن بالتأكيد ما إن أظهر أمامه ويعرف بخبر طلاقي سيعتذر ويطلق تلك السارقة التي تزوجها وسترين.
صرخت بها أختها وقد استفزها حديثها ولويها للحقائق: كف عن حماقتك سلمى، أنت من تركت الرجل غير عابئة به ولا بحبكما عندما لاحت لك فرصة للسفر لأوروبا، ما دمت تحبينه هكذا لماذا تخليتي عنه؟ دعي الرجل في حاله وفكري في حياتك وكفي عن أنانيتك الكون لا يدور من حولك.
دخلت والدتهما على صوت رجاء العالي تتكأ على عصاها وتمشي بضعف، أسرعت رجاء إليها تسندها: هل هناك شيء أمي لماذا قمت من مكانك؟ هل تريدين شيء؟
-سمعت صوتك العالي يا رجاء، لماذا تحزنين شقيقتك اتركيها تفعل ما يرضيها ألم تكف صدمة طلاقها؟ ثم التفتت لسلمى تسألها: لماذا لم تفطري حبيبتي؟
تدللت سلمى على والدتها كعادتها دلالًا رأته رجاء مقيتًا خصوصًا مع صحة والدتهما الضعيفة: اشتهي شيئًا من بين يديك أمي، إن طبق البيض خاصتك لا يقارن بأي طعام أكلته.
قامت أمها مسرعة حتى كادت تنكفأ على وجهها فأسرعت رجاء إليها تسندها وهي تقول لها بحنان: اجلسي أمي و أنا سأحضر لها الفطور.
استندت والدة سلمى على عصاها ثم تحركت بخطوات بطيئة نحو الباب وهي تقول لرجاء: أنا سأصنع لها افطارها يا رجاء اجلسي أنت، إنها تشتهيه من بين يدي.
رمقت رجاء أختها بغيظ وما إن انصرفت والدتها من الحجرة حتى وبختها: أمي وأبي صحتهما لم تعد كالسابق كما ترين ولهذا أحضر لهما يوميا لألبي طلباتهما فكفِ عن دلالك سلمى وراعي صحة والديك الضعيفة.
تأففت سلمى وهي تستمع لتوبيخ رجاء المستمر لها منذ عودتها من فرنسا بعد طلاقها من كارم، لقد عادت منذ شهرين ونصف وبقي القليل فقط على انتهاء عدتها، قضتها في التنزه مع صديقاتها وأبناء أشقائها الذين يقاربونها جميعًا في العمر بل إن منهم من يكبرها بالفعل، ومع قرب انتهاء عدتها بدأت تفكر في شكل حياتها الجديد بعد أن تصير حرة رسمية لتفعل ما تشاء لتجد قلبها ينبض باسم واحد كريم حبيبها، صحيح إنها تراسله منذ أسبوع كامل ترغب في إثارة شوقه إليها حتى إذا انتهت عدتها ستسارع للقائه ويتوجا حبهما بالزواج، ولكنه لا يرد عليها وهذا بدأ يوترها ودفعها للتساؤل هل يحب زوجته؟ هل نسيها؟ واليوم عندما رأت صورتها أيقنت أن زوجته محال أن تصمد في مقارنة أمامها، همست متوعدة" سأريك يا كريم كيف تتجاهلني بهذا الشكل، ولا ترد على رسائلي"
رفعت عينيها إلى رجاء المستمرة في نصائحها التي لا تنتهي فقاطعتها: رجاء كفي عن نصائحك، كونك ارضعتني مع ابنتك لا يعطيك الحق في توبيخي كلما رأيتني، لقد سأمت من أسلوبك هذا.
اقتربت رجاء منها تحاول تهدئة نفسها فهي الأعلم بعناد شقيقتها ودلالها الزائد عن كل الحدود، ربتت على كفها بحنان تقول لها بعاطفة حقيقية: تعلمين جيدًا إنني أراك ابنتي لقد أرضعتك مع سما وكبرتما معًا، أبدًا لا أشعر نحوك بمشاعر أخوية بل بمشاعر أمومة تماثل ما أشعره تجاه أولادي، أنا خائفة عليك حبيبتي.
قامت من مكانها تقاطع حديثها الذي تعلم جيدًا نهايته بمحاولة اقناعها بالرجوع إلى كارم قائلة: سأذهب إلى أبي حتى تحضر أمي الإفطار.
تطلعت رجاء في إثرها بحسرة خائفة عليها من الغد بعنادها ودلالها، غمغمت بأسف: سامحك الله يا أبي أنت وأمي على دلالكما الزائد الذي شوهها لهذا الحد.
شردت ببصرها تسترجع ذكريات مر عليها ما يقارب الثلاثين عامًا، تذكرت يوم زفاف أصغر أشقائها، وتعب والدتها الشديد يومها، يومها لم يعطوا للأمر أهمية وأرجعوا تعبها لتحضيرات الزواج، ولكن التعب زاد على والدتها وهنا كانت صدمتهم جميعًا كبيرة بعد ذهابهم للمستشفى فقد فوجئوا أن والدتها حامل، وقتها كانت والدتها تبلغ السادسة والأربعون ووالدها في الخمسين، تنهدت وهي تتذكر تعب والدتها الشديد في الحمل وانهيارها الصحي بعد الولادة حتى إنها من اعتنت بسلمى وأرضعتها مع سما ابنتها التي تكبر سلمى بستة أشهر أغلقت عينيها وهي تسترجع ذكريات طفولة سلمى كانت طفلة حلوة تدخل القلب، دللوها جميعًا هي وأشقائها، ولكن والديها أفسدوها بالدلال كانت حجتهم الدائمة إنهم لن يعيشوا معها مثل ما عاشوا معهم، لم يرفضوا لها طلبًا، لم يصححوا لها خطئًا، لم يقوموا لها اعوجاجًا، فنشأت ترى نفسها أفضل من الجميع، تتعامل في حياتها مثلما كانت طفلة تشير إلى اللعبة فيشتروها، غافلة أن الحياة أكثر اختلافًا و تعقيدًا.
مسحت على وجهها تنفض عنه ذكرياتها وقامت من مكانها بتثاقل تتجه لصالة المنزل لتجد والدها جالسًا يدلل سلمى كأنها طفلة صغيرة وأمها تضع لها الطعام أمامها لتقول لها سلمى بدلال: أمي لم تطعميني منذ زمن.
جزت رجاء علي أسنانها بغيظ وهي تجد أمها تطعم سلمى في فمها كطفل صغير، غمغمت بغيظ: سامحكما الله أنتما السبب في افساد حياتها بدلالكما الزائد.
انصرفت إلى المطبخ تعد طعام الغذاء لوالديها حتى لا تضطر والدتها للقيام، انهمكت في المطبخ وعقلها مشغول بسلمى وكيف تساعدها، بينما كانت سلمى غارقة في صور كريم وخططها المستقبلية.
*************
تحركت لينا بتثاقل واتجهت إلى والدها الجالس بحزن يدفن وجهه بين كفيه بجوار زوجته التي تتساقط دموعها بلا توقف، اقتربت من أبيها لتجلس بجواره، ربتت على ساقه بحنو ثم سألته: كيف حالها أبي هل من جديد؟
رفع رأسه إليها فهالها شحوب وجهه الشديد وعيونه الغائرة، تحدث فكان صوته مبحوحًا خافتًا: لا يا لينا كما هي ليس هناك جديد.
ربتت على كفه بتعاطف هامسة: إن شاء الله ستفيق من غيبوبتها وستعود أفضل من السابق يا أبي لا تقلق.
رفع والدها كفيه هامسًا: يا رب استجب لها يا رب.
ثم نهض بتثاقل يقول: سأذهب لأصلي وأدعو الله أن يردها لنا سالمة.
ما إن ابتعد والدها حتى همست لها زوجته من بين بكائها: ليتك كنت مكانها وهي كانت سالمة فهي لها من يريدها ويحبها أما أنت فلا أحد يريدك.
كلماتها كانت موجعة مؤلمة لقلب لينا، كادت أن ترد عليها لولا أنها تماسكت وذكرت نفسها بمصابها وحالتها النفسية السيئة، فقامت من مكانها وابتعدت عنها.
ابتعدت بخطوات بطيئة متثاقلة تتجه إلى مكان الرعاية المركزة التي تحتجز فيه أختها، رأت علي زوج أختها واقفًا بجوار الحجرة، تنهدت بحزن وهي تقترب منه تحييه بصوت هامس و تسأله: هل من جديد يا علي؟
هز رأسه نفيًا دون أن يرد، فقالت بإشفاق: لماذا لا تجلس يا علي؟ أرح نفسك قليلًا حتى تجدك تسنيم بكامل قوتك عندما تستيقظ، أنت على هذا الحال منذ الحادث، لا تجلس ولا تأكل.
رفع إليها عينين مهمومتين حزينتين قائلًا بصوت خافت: كيف ارتاح وهي تصارع الموت في كل دقيقة، إنها روحي يا لينا كيف أعيش بدونها.
دمعت عيناها من كلماته ثم همست بصوت مختنق بالبكاء: إن شاء الله ستفيق وستعود أحسن من السابق.
همهم بخفوت "آمين" ثم سألها: كيف حال الأولاد؟
مسحت دمعة فرت من عينيها وهي ترد عليه: إنهم بخير، سأذهب إليهم الآن حتى لا يتعبوا خالتي.
نظر إليها بامتنان و شكرها بخفوت فاستأذنته لتنصرف وداخلها يبكي ألما على أختها الغارقة بغيبوبتها منذ عدة أيام بعد حادث السير، تحركت بتثاقل لتخرج من المستشفى، أوقفت إحدى سيارات الأجرة لتقلها إلى بيت تسنيم.
ما إن فتحت لها خالة تسنيم الباب حتى اقترب منها مالك وملك بملامح مبتهجة، احتضنتهما بحنو وهي تعطي لهما بعض الحلوى، سألت إكرام: كيف حالك خالتي؟
تنهدت إكرام بحزن وهي تقودها إلى حجرة المعيشة ليجلسا متجاورتين: الحمد لله يا ابنتي هل من جديد؟
-لا للأسف خالتي حالتها كما هي، كم أتمنى لو كنت أنا مكانها وهي سليمة معافاة لأجل أولادها وأحبابها.
شهقت إكرام باستنكار وهي تعنفها: ما هذا الكلام يا لينا حماك الله وحفظك يا حبيبتي لا أرانا الله فيك مكروه أبدًا، وإن شاء الله تسنيم ستتعافى وتصبح بخير.
انهمرت دموعها بلا كلام فحضنتها إكرام بحنو وربتت على ظهرها بدون كلام وكأنها تخبرها إنها معها تفهمها وتدعمها، ابتعدت لينا بعد قليل وهي تمسح دموعها واعتذرت لها بصوت خافت: آسفة خالتي لم يكن مفترض أن أنهار هكذا فأنت الأخرى حزينة، لم يكن عليّ أن أحملك همي بل أخفف عنك.
ربتت على كفها بحنو تقول: لا تقولي هذا يا حبيبتي كلنا موجوعون بالخبر ونتألم ولكننا نخفف عن بعضنا، لهذا وجد الأهل.
ارتسمت ابتسامة مريرة على شفتيها وهي تسمع كلمة الأهل، كلمة لم تعرف معناها أبدًا في حياتها القصيرة فلقد حرصت زوجة أبيها على تقطيع جميع أواصر العلاقة بعائلة أمها، حتى خالتها الوحيدة التي تحبها كابنة لها حرصت على إثارة المشكلات كلما ذهبت إليها فقللت من الذهاب إليها إشفاقاً على والدها من الضغوط التي يتعرض لها، كما حرصت كذلك على تسطيح علاقتها بعائلة أبيها بشكوتها الدائمة منها حتى نفر منها الجميع وأصبح كلامهم الدائم معها تأنيب مستمر ونهر دائم واخبارها أن من حق أبيها الحياة والاستقرار بعد وفاة والدتها حتى ماتت مشاعرها تجاههم مع الوقت وتجنبتهم وتهربت من لقائهم، وهذا أسعد زوجة أبيها فهي ترى أنها وحدها وأولادها من لهم حق القربى أما هي فنكرة لا تذكر.
انتبهت علي صوت اكرام تحدثها فالتفتت إليها
-سأعد لك كوبًا من الشاي حبيبتي.
-لا خالتي اجلسي وارتاحي أنا سأعده
ابتسمت بحنان وهي تشاهد أولاد شقيقتها منهمكين بأكل الحلوى، طفلين جميلين يشبه كلاهما تسنيم كثيرًا ملك في الرابعة ومالك في الخامسة، انصرفت لتعد الشاي وداخلها يدعو الله أن ترجع أختها إلى بيتها وأولادها وتتعافي مما أصابها.
وضعت الشاي أمام إكرام وجلست بجانبها فاقترب منها مالك متسائلًا: "أين أ أ أأ أمي خالتي؟ ألن تحضر؟ لقد اشتقت إليها كثيرًا "
سخرت ملك من خلفه على نطقه محاولة تقليد نطقه المتعثر فدمعت عيناه من سخريتها فأخدته لينا في أحضانها وهي ترمق ملك بعتاب، ربتت على ظهره بحنو وهي ترد عليه: ستأتي بعد عدة أيام حبيبي لا تقلق.
ثم أخرجت له إحدى كتب التلوين التي يعشقها من حقيبتها وأعطتها له قائلة: من سيلون هذه الرسمة؟
رفع يده بحماس وهو يأخذ الكتاب منها ليبدأ في التلوين، بينما أشارت لينا لملك التي أتت إليها مسرعة تجلس على ساقها فكلمتها بهدوء: ملك حبيبتي عندما يتحدث مالك لا أريدك أن تسخري منه اتفقنا.
-ولكنه لا يعرف كيف يتحدث، ألا ترين كيف يردد الحروف! أنا أتكلم أفضل منه.
-إذا نفذت اتفاقنا ولم تعلقي على طريقة حديث مالك سأشتري لك تلك الدمية التي رأيتِها أمس في التلفاز وأعجبتك.
قفزت ملك بحماس: لن أعلق مرة أخرى ولكن متى ستشتريها لي؟
ابتسمت لها بحنان وهي تناولها إحدى دفاتر التلوين هي الأخرى وترد عليها: إذا أخبرتني جدتك إنك تسمعين الكلام ولا تعلقين على كلام مالك لأسبوع كامل سأشتريها لك.
أخذت منها الكتاب مرددة بحماس "سأفعل" ثم جلست بجوار شقيقها لتلون هي الأخرى.
"-لا أعرف ماذا كنت سأفعل بدونك يا لينا؟ لم تعد لي طاقة لحركتهم وشغبهم المستمر، إنهم يسمعون كلامك"
قالتها إكرام للينا بامتنان فردت عليها بخفوت: أنا لم أفعل شيئًا خالتي، أنا أحبهم للغاية، أتمنى أن تعود إليهم تسنيم بسرعة فهم يفتقدون وجودها للغاية، لا أحد يستطيع ملئ مكانها، ثم نظرت إليها بقلق مردفة: تقلقني حالة مالك أشعر به كل يوم يزداد تلعثمًا في كلامه هل يفعل هذا معك أيضًا؟.
أومأت إكرام برأسها إيجابًا قائلة: نعم واليوم كان يقبض يده بقوة وهو يتحدث كأنه يجاهد ليخرج الكلمات من فمه وكما ترين ملك لا تنفك تسخر منه ومن طريقة حديثه.
-سأحاول الذهاب غدًا إلى اخصائي تخاطب لاستشارته فربما يحتاج إلى بعض الجلسات أو ربما يعطيني بعض النصائح التي ننفذها معه.
-لا حرمنا الله منك حبيبتي ماذا كنا سنفعل من دونك؟
ابتسمت ابتسامة باهتة لها وهي تتأمل أولاد شقيقتها المنهمكين بالتلوين، مالك كان شديد التعلق بوالدته عكس ملك التي كانت أقرب لوالدها، لذلك كان تأثره أكبر باختفاء والدته الفجائي من حياتهم، منذ عدة أيام بدأ يتلعثم بالكلام على غير عادته، تمنت في أعماقها أن ترجع أختها لبيتها بالسلامة ولا يُحرم أولادها منها أبدا فهي أكثر من تعرف مرارة اليتم وآلامه.
*********
نظر أنور زميل محسن بالعمل إليه بحقد وهو يستقر على مكتبه بعد خروجه من مكتب مديرهم، كان يجب أن يكون هو في نفس مكانته، هو أقدم منه في العمل بثلاث سنوات كاملة، كان المدير يوليه كامل ثقته أما منذ قدوم محسن فقد تبدل الأمر و صار محسن هو مصدر ثقته، بل لقد أزاد له راتبه عنه رغم أقدميته، بينما محسن كان غافل عن نظراته يعمل بجد كعادته منتظرا انتهاء العمل حتى يختلي بنفسه ليتحدث مع صفاء، فلقد كان ينتظر بشوق طوال النهار قدوم الليل ليختلي بحبيبته، مال مراد زميلهم الثالث بالمكتب على أنور يهمس له: كف عن تحديقك به بهذا الشكل ستلفت انتباهه إليك.
رد عليه بهمس غاضب: أيعجبك هذا؟ المدير يقربه ويعطيه كل الامتيازات برغم أننا أقدم منه، هذا ظلم منذ أتى إلى هنا وهو يستولي على الأنظار، نحن أحق بزيادة الراتب وليس هو.
هز مراد كتفيه بلا مبالاة قائلًا: لا يهمني في الحقيقة من يقربه المدير، ما يهمني أني أتقاضى راتبي آخر الشهر دون نقصان.
-أما أنا فيهمني، هذا الحقير يتعمد التقرب من المدير والتزلف إليه ومن يعلم قد يكون ينقل إليه أخبارنا ويوهمه بأننا لا نعمل بجد.
زفر مراد بملل من حديث أنور المتكرر ثم قال: دعك منه يا أنور وانشغل بعملك، محسن ليس وراءه أسرة مثلنا هنا يهتم بها بل هو وحيد و متفرغ تمامًا للعمل ومن الطبيعي أن يكون أكثر فراغًا وتقبلًا لأيّ مهام إضافية يعطيها المدير له بعكسنا، وهذا ما يدفع المدير لأن يقربه ويزيد راتبه فهو يعمل ساعات إضافية عنا.
ثم ركز انتباهه على الأوراق التي أمامه وأخذ يعمل عليها تاركًا الآخر تأكله الغيرة والحقد من محسن.
*********
دخل غرفته بإرهاق شديد بعد يوم عمل طويل، وضع وجبة الطعام التي أحضرها في طريقه على أحد المقاعد وذهب لينعش نفسه ليستفيق لمحادثة صفاء، كان يسكن بإحدى الشقق المشتركة توفيرًا للنفقات ولكنه أخذ حجرة مستقلة ليوفر بعض الخصوصية لنفسه، كان شابًا في الخامسة والعشرين من عمره طويل القامة يميل جسده للنحافة ذو بشرة شديدة البياض مشربة بحمرة طبيعية وعيون سوداء، وقف أمام المرآة ليجفف شعره بمنشفة صغيرة ثم رماها بإهمال على الأرض وأغلق الباب بإحكام ليتصل أولًا بوالدته ليطمئن عليها، ما إن سمعت أمه صوته حتى تهللت ملامحها وهي تسأله بلهفة: كيف حالك يا حبيبي؟ لقد اشتقت إليك كثيرًا.
رد عليها وفمه ملئ بالطعام: أنا بخير يا أمي، كيف حالك أنت و أبي؟
-كلنا بخير يا حبيبي، هل تأكل؟
رد عليها وهو يأكل بنهم: لم آكل شيئًا منذ الصباح يا أمي.
شهقت أمه مستنكرة: لماذا يا حبيبي؟
- انشغلت كثيرًا يا أمي في العمل، صاحب العمل يوكل إليّ العديد من المهام لثقته بي، أدور حول نفسي من الصباح و لا أجد وقتًا حتى للطعام.
دعت له: ليوفقك الله يا حبيبي ويفتح لك أبواب رزقه الواسعة، أنت هناك تتعب وزوجتك هنا لا تفعل شيئًا، أوقظها أنا كل يوم من النوم، هل كبرت لأًخدم أم لِأخدم!
زفر بضجر من الحديث المستمر والشكوى التي لا تنتهي من صفاء ثم قال لها بصبر: حاضر أمي سأحدثها، سلمي لي على أبي واخوتي، وأغلق الهاتف ليتصل من فوره بصفاء بشوق ولهفة عارمين.
***********
فردت ظهرها بتعب وهي تشعر بألم شديد فيه بعد يوم عمل شاق بالأسفل، حماتها تصر على أن تتواجد بالأسفل طوال النهار حتى لو أنهت أعمال البيت ولولا محادثة محسن لها اليومية ليلًا لظلت هناك بالأسفل حتى موعد النوم، رفعت هاتفها تتصل بوالدتها الحبيبة التي اشتاقت إليها، منذ شهر كامل لم ترها، ستلح اليوم على محسن أن يسمح لها بقضاء اليوم غدًا عندها، ولكن قبل اتصالها تعالى رنين هاتفها باسم زوجها، تنهدت وهي تلقي نظرة على نفسها في المرآة تطمئن على مظهرها قبل أن تفتح الاتصال تسأله ببشاشة كعادتها: كيف حالك محسن؟
-الحمد لله صفاء كان مازال يأكل وهو يتفحصها عبر الاتصال المرئي بنظرات مشتاقة، صفاء زوجته سرقت قلبه منذ رآها بابتسامتها تلك، كان وجهها شديد البشاشة مبتسم بشكل دائم وفطري، كانت مرحة خفيفة الظل وذات وجه جميل طفولي منمنم الملامح كالعرائس، بشعر طويل لامع شديد السواد، وعيون بنية واسعة ورموش طويلة، وصفات تشبه اسمها فهي كانت صافية النية طيبة القلب بشكل كبير، رد عليها بابتسامة: أنا بخير الحمد لله حبيبتي، آكل كما ترين بعد يوم عمل طويل.
-أعانك الله يا محسن يبدو عملك شاق للغاية، ثم أضافت بخجل: لقد اشتقت إليك.
تفاعل قلبه مع كلامها فرد عليها بعاطفة: وأنا أيضًا اشتقت اليك كثيرًا، أتمنى أن أكون بجوارك الآن فآخذك بين ذراعي.
ابتسمت بخجل من عبارته التي تعرف ما يليها من أشياء سيطلبها منها، فأسرعت تقول قبل حديثه المتوقع: محسن أريد أن أطلب منك شيئًا، لقد اشتقت إلى أمي كثيرًا فأنا لم أذهب منذ شهر كامل إليها، هل تسمح لي بالذهاب إليها غدًا وقضاء اليوم معها؟
-بالطبع حبيبتي اذهبي كما تشائين.
قالها متلهفًا لينهي الحوار ليبدأ فيما اشتاق إليه كثيرًا، ولكنها عادت تلح عليه: أرجوك محسن اتصل بوالدتك وأخبرها الآن حتى لا ترفض غدًا.
بنفاذ صبر أغلق معها الخط ليخبر أمه بذهاب زوجته لزيارة والدتها غدًا وعندما عاود الاتصال بها ليخبرها كادت تطير من الفرح واستجابت لما طلبه منها كما لم تستجب له يومًا.
تعليقات
إرسال تعليق